يبحث هذا الموضوع في العلاقة بين التفكير واللغة وبين الفهم العقلي والفهم الكلامي ، ونتاجهما الفكر واللسان واللغة.
(1)إنّ الرابطة المادية التي تجمع بين التفكير والكلام هي الإدراك الدماغي، وذلك عند تكوين المعاني في نشأتها من إدراك المعرفة المعطاة، وبما أن التفكير هو الفهم العقلي الذي يتكون من إدراك عقلي لمعرفة عقلية والكلام هو الفهم الكلامي لمعرفة كلامية فإن الوظيفة الإدراكية للدماغ هي التي تربط بين المعاني العقلية عند الإنسان سواء كانت هذه المعاني بصرية أو لمسية أو ذوقية أو سمعية أو لفظية ، فالإدراك الدماغي هو الذي ينظم عمليات التفكير والكلام ويبين هذه العمليات لتكون عقلاً بصرياً أو لمسياً أو ذوقياً أو شمياً أو لفظياً الذي هو الكلام وكل هذه العقول النوعية تتشكل عند بناء العقل الكلي للإنسان. وعليه فالإدراك البشري هو أداة الجمع والربط والبناء في عملية التفكير والكلام.
الكلام بنية ألفاظ عقلية أي بنية ألفاظ لبنية معان أو بنية ألفاظ لبنية إدراكات معارف فقد كان لورود كلمة الألفاظ في تعريف الكلام، خاصية تفيد عندنا نوع هذه المعاني من حيث كونها معاني سمعية وصوتية. أي أنّ الكلام بنية ألفاظ لمعان صوتية وسمعية ومن هنا نجد أن العلاقة بين المعاني السمعية والمعاني الصوتية والتي هي المعاني اللفظية أو الكلمات هي جزء من العقل الكلي للإنسان، والعقل البشري في مرحلة سابقة ، ربما وجد وليس فيه معان سمعيّة وصوتيّة أي معان لفظية أو كلمات وهذا ممكن ولكنّه قديم لا نعرف يقيناً إن وجد أم لم يوجد ولا نعلم متى وأين ومعلوم أن هذه النظرية المعرفية تبحث في الإنسان والأنا. ولذلك فإنها تبحث في الكلام في عقولنا نحن لا في عقول الأوائل من الناس من النوع البشري.
والكلام المستعمل اليوم واللّغة أي الكلام الموروث جزء من العقل الكلّي للإنسان الأنا لأنّه هو العقل السمعي، والعقل الصوتي فلا لغة ولا كلام قبل أن تصبح الأصوات معاني لفظيّة وهي لا تكون كذلك قبل أن تصبح معاني سمعيّة وصوتيّة، وهذه لا تكون معاني سمعيّة وصوتيّة قبل أن تصبح إدراكات حسيّة وسمعيّة لمعارف حسيّة سمعيّة، وإدراكات حسيّة صوتيّة لمعارف حسيّة صوتيّة، وهذه نقطة البداية ولحظة الولادة للأصوات حتى تصبح معان حسيّة للأصوات ومعاني حسية للألفاظ ومعان حسيّة للكلمات، فإذا أوصلت الأصوات إلى هذا المستوى من المعاني الحسيّة السمعيّة والصوتيّة ارتقت وارتفعت في الاستعمال إلى المستوى اللساني للمعاني أي الألفاظ المحكيّة في الحياة اليوميّة، وهو المستوى الذي يجعل هذه المعاني في مستوى بنية المعاني الكلية المؤسسة عند الإنسان في كافة مجالات الحياة من معان بصرية ومعان ذوقية ومعان سمعية ومعان لمسية معاني داخلية كثيرة. أي أن هذا المستوى هو الذي يجعل المعاني السمعية والصوتية جزءاً من المعاني الكلية، أي جزءاً من العقل الكلي أي بعد أن أصبحت عقلاً صوتياً وعقلاً سمعياً كما أصبح غيرها عقلاً بصرياً وعقلاً لمسياً وعقلاً شميّاً وغيرها.
فهذا المستوى هو مستوى المعاني العقليّة للكلام في مراحله الثلاث. في مرحلة المعاني العقليّة للأصوات والمعاني العقليّة للألفاظ والمعاني العقليّة للكلمات ،وهذا المستوى هو مستوى ربط التفكير بالكلام أو الفكر باللغة لأن التفكير الذي هو الفهم العقلي يربط الإدراكات العقلية بالمعارف العقلية، ويربط بين المعارف العقلية من النوع الصوتي والسمعي بالإدراكات العقليّة لهذه الأصوات والمسموعات، فالمستوى العقلي للمعاني هو الذي يجعل الألفاظ كلاماً كما جعل المستوى الحسي للمعاني من الأصوات ألفاظاً من قبل والمستوى العقلي للمعاني يؤكد أنّ المعاني الكلامية جزء من المعاني الكلية لدى الإنسان فلا يكون الإنسان الأنا عاقلاً إلا وهو متكلّم ولا يكون متكلّماً إلا وهو عاقل باستثناء بعض الحالات المرضية والإعاقات العصبية الدماغية والتي ليست هي موضوع الإنسان الأنا في البحث علماً بأن هذه النظرية المعرفية خاصة في مجال تعريف العقل وضرورة اعتماد هذه الحالات عند تعليمها في التركيز على نوع المعاني الممكن اكتسابها عندهم وهذا يسهل الطريق على المعلّمين والمربّين الذي من الممكن أن يسلكوه ليعتنوا بنوع المعاني الذي يستطيع أصحاب الإعاقة بناؤها سواء كانت صوتية أو سمعية أي معاني لفظية لتُعقل . أي تصبح جزءاً من بنية معاني الإنسان اللّفظية حتى تستعملها كلمات يقدرون على تعلمها.
وكل معنى يفقد يعوّض عنه بمعنى من غيره زائد فالأصم الذي لا يستطيع بناء معان سمعيّة يعوّض عنها بمعان بصريّة زائدة وهكذا مع كل المعاني المختلفة بصريّة وذوقيّة وسمعيّة ولمسيّة ...الخ.
فالأشخاص والأطفال خاصّة يختلفون في قدراتهم على بناء الأنواع المختلفة من المعاني فقد يكون لدى البعض القدرة على بناء نوع معين من المعاني أكثر من غيرهم فعلى الآباء والمربين تنمية هذه الميول لأنها الطريقة السليمة في بناء العقول المتميزة. والتي نسميها العقول الذكية أي أننا نرى أن الذكاء عقلي نوعي.
إنّ الذكاء بالنّسبة للأطفال هو قدرة مميّزة على بناء نوع معيّن من المعاني بدرجة كبيرة أعلى من المستوى الطبيعي أو المعتاد عند الأطفال الذين هم في سنهم وفي مثل أعمارهم وبيئتهم وتربيتهم.
تحديد العلاقة بين التّفكير واللّغة والكلام والفكر في المستوى الثالث وهو المعاني اللغوية.ودور التفكير في المعاني اللغوية يتضح في القدرة على تكرارها وحفظها وفهمها فالمعاني اللغوية كلها موروثة منها ما هو مستعمل وغير مستعمل وغير المستعمل سماعه وتكراره عند التلقين كونها حسية صوتية وسمعية، وفي هذه الحالة وجود الملقن ومن يعيد من ورائه دون حفظها أو فهمها من الذي يعيدها أو يحفظها دون القدرة على فهمها لأنها ليست مستعملة في الحياة اليومية أي ليست من الكلام اللساني فإذا كانت من غير المستعمل وموروثة ورغب فهمها وجب إحياء المعنى الحسي للصوت اللغوي وتعقيله وألسنته ولفظه معنى عقلياً وبدلالة لغوية.
حتى تصبح لغة موروثة من جهة وألفاظاً مفهومة أي كلمات من جهة أخرى تستعمل عندها على أنها جزء من الكلام اللّساني أي جزء من العقل الكلي وأما في حالة وجود فئة من النّاس يختصون بدراسة اللّغات الميتة. فإن هم إذا فهمو أصواتها وألفاظها وخطوطها ورسومها على هيئة ألفاظ فهذا الفهم خاص بهم فقط ولا يعتبر إحياء للغات الميّتة وإنما محاولات فردية لفهم هذه اللغات. وفي كل المراحل الثلاث لا تخرج هذه المعاني عن كونها جزءاً من الفهم الحسّي للأصوات اللغوية، أو جزءاً من الفهم العقلي للألفاظ اللغوية، وهي في هذه المرحلة جزء من بينة معاني الإنسان، وجزء من عقله وفي المرحلة الأخيرة جزء من الفهم الكلامي للكلمات اللغوية، وهذه ميزة اللّغات الحيّة فإنها كلام موروث ولكنه مفهوم في أصواته وألفاظه وكلماته أي في معانيه الحسية العقلية والكلامية. فهي جزء من العقل الكلي للإنسان الأنا.
بالاستنتاج مما سبق فإن تعريف ماهية الإنسان إنّما تتحدد من هذه الوظائف الأساسيّة التي يقوم بحسب ما توصّلنا إليه على النحو التالي:
1. الإنسان مخلوق : في مادته من حيث وجوده بتقدير وإتقان.
2. الإنسان مخلوق فهم: أو مخلوق حاس
3.الإنسان مخلوق عاقل: أو مفكر.
4. الإنسان مخلوق متكلم أو مخلوق مبين.
وهكذا فالإنسان مخلوق فهم عاقل متكلّم ولما كان المتكلّم عاقلاً فهما أي أن المتكلّم ينطق ألفاظاً معقولة حسب تعريف الكلام كان يمكن الاكتفاء بتعريف الإنسان بالمخلوق المتكلم وبحسب هذه النظرية المعرفية الكلام صحيح.
ولكننا وجدنا كلمة أخرى في اللغة العربية تحمل في معناها الفهم والعقل والكلام، الاحساس والتفكير والإبانة، فكانت أحق بالاستعمال والتسمية والوصف للإنسان على الحقيقة من أي كلمة أخرى.
وهذه الكلمة التي تحمل معنى الفهم والتفكير والكلام هي القراءة حيث جاء في معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ما نصه: (وقرأت القرآن عن ظهر قلب أو نظرت فيه، هكذا يقال ولا يقال قرأت إلا ما نظرت فيه من شعر وحديث ويقرأ فلان قراءة حسنة ، فالقرآن مقروء وأنا قارىء وجل قارىء عابد ناسك ، وفعله التقري والقراءة).
1. أن في قوله (قرأت القرآن عن ظهر قلب) تحويل المعاني العقلية المحفوظة فيالوجود العقلي إلى فهم كلامي في وجوده الكلامي المنطوق.
2.(نظرت فيه)تحويل الوجود الكلامي المدون إلى فهم عقلي عن طريق المعرفة العقلية والإدراك العقلي.
3. (لا يقال قرأت إلا ما نظرت فيه من شعر وحديث) في هذه الجملة حصل القراءة من النظر المكتوب في شعر وحديث وهو هنا كأنه نظر في وجود حسي. إذا فهمنا النظربالمعنى الحسي وهو المشاهدة بالعين لما هو مكتوب في الكتاب وإلا فالمقصود هو النظر من التفكر، والأول أرجح.
فإذا كان المعنى الأول هو المقصود فمنه تحويل الوجود الحسي المدون إلى وجود كلامي في الذاكرة عن طريق الفهم العقلي. وإذا كان الثاني فهو اشتراط في أن القراءة تفكير في المعاني العقليّة المتضمّنة في الشّعر والحديث وهو تحويل للوجود الكلامي في وجود عقلي.
مما سبق نفهم المعنى العقلي والمعنى البياني لفعل القراءة فإذا قيل لطالب اقرأ القرآن صح منه أن يقرأ الوجود العقلي أي ما يحفظ في الذّاكرة من بنية المعاني العقلية إلى وجود كلامي مسموع فميز ألفاظ القرآن من خلالها.
ويصح للطالب فتح القرآن والنّظر إلى أي صفحة ويوجّه نظرة إليها ليقرأ منها وبهذه الحالة يحول الوجود الكلامي المدون على وجود حسي ورقي إلى فهم ووجود عقلي ، فإذا طلب منه أن يسمع الحاضرين زاد على ما سبق أن حول الوجود العقلي إلى وجود كلامي مسموع.
أي أنّ : فعل القراءة كان حلقة وصل ما بين مراتب الوجود ومراتب الفهم وهذا المعنى الحي في النظر والمعنى العقلي في التفكير والمعنى البياني في اللفظ لكلمة القراءة هو الذي نسميه المعنى الحقيقي للكلمة.
وهناك معنى آخر وهو أن يقول شخص لآخر : إن واقعنا المعاصر بحاجة إلى قراءة جديدة وتشخيص عميق.فإن فعل القراءة هنا فيه معنى عقلي لا يختلف فيه اثنان وجاء فعل التشخيص يحمل نفس المعنى وكأنه بدل عنه، أي أن المقصود من هذا المعنى النظر في الوجود الحسي والعلاقات الاجتماعية بين الناس، وكأنه تحويل للوجود الخارجي في علاقات الناس بعضهم ببعض عن طريق الفهم الحسي والفهم العقلي والفهم الكلامي إلى موضع الحكم عليهم وهذا الحكم في النهاية فهم عقلي.
وجاء في المعجم (قري: القاف والراء والحرف المعتل أصل واحد صحيح يدل على جمع واجتماع ،من ذلك القرية سميت قرية لاجتماع الناس فيها، وإذا همز هذا الباب كان هو والأول سواء القارئة، وهو الشاهد ويقولون: الناس قواري الله تعالى في الأرض، هم الشهود، وممكن أن يحمل هذا على ذلك القياس،(2) أي أنهم يقرون الأشياء حتى يجمعوها علماً ثم يشهدون بها)
والقراءة كلمة تستعمل في معنى الجمع والضم وهي تجمع المعنى الحسّي والعقل الكلامي في معنى واحد وفي الدّلالة الحقيقيّة للكلمة والدّلالة المجازيّة ومن الإحساس غريزيّاً إلى الفهم ومن الفهم كلامياً إلى التفكير لغوياً .القراءة روح الإنسان الأنا إنها جمع للوظائف الفسيولوجيّة والمعنويّة في وظيفة واحدة هي الوظيفة الإنسانيّة. لأنّها تنقل المعرفة من وجود إلى وجود وتتمثّل في انتقال المعاني من فهم لفهم فهي ملكة تمكين تجمع وتضم في نفسها ملكة التمكين الإجباريّة والإختياريّة والبيانيّة، وبالتّالي تعبر عن الذّات البشريّة والصّفة العامّة الملازمة للإنسان.
المصادر :
1.عمران سميح نزال/مرجع سابق ص 209-215 بتصرف.
2. ابن فارس/ معجم مقاييس اللغة ص884.
المقالات المتعلقة بالتفكير اللغوي – العقل والكلام- القراءة