يُعدّ الغش من الظواهر القديمة والحديثة التي انتشرت بين الناس منذ أن وُجِدَت العلاقات الاجتماعية؛ إلّا أنّها بدأت تتزايد بشكلٍ كبير؛ حيث أخذت تتنوع مظاهرها وأشكالها، ويُعدّ سلوك الغش من السلوكيات غير السوية وغير الأخلاقية، فهي تُنافي جميع معاني الإنسانية التي تدعو إلى الصدق في الأمور كلها؛ ذلك أنّ الغش يعود على الفرد والمجتمع بأضرارٍ كبيرةٍ هم في غنىً عنها، وهو سلوكٌ غير مرغوبٌ به في المجتمع، ويسعى الجميع لمحاربتهِ، ومحاولة الحد من انتشارهِ، فما هو الغش الذي نهى الشرع عنه وحذّر من التعامل به؟ وما هي مظاهره والأسباب التي دعت إلى وجوده وانتشارهِ؟
مفهوم الغشإنّ كلمة الغش تتضمن العديد من المعاني، فهي إظهارُ الإنسان خلاف ما يُضمِر، وقد ظهرت في الاصطلاح تعريفات متعددة تختلف عن بعضها البعض باختلاف المجال الذي وُجِدَ فيه الغش،[١] فعرّفه الاصطلاح الشرعي بأنّه ما يُخلَط من الردي والسيء بالجيد، أو بث السوءِ ونشرهِ على أنّه خير يُرجا، أما الغش في الاصطلاح التربوي فهي عملية تزييف النتائج المتعلقة بالتقويم، أو محاولة من الطالب لأخذ إجابة الأسئلة بطرق غير مشروعة، وعرّف علم الاجتماع الإسلامي الغش بأنّه ظاهرة اجتماعية منحرفة، خرجت عن العديد من المعايير والقيم الشرعية التي أقرّها الإسلام؛ وذلك لما تتركه في المجتمع من آثارٍ سلبيةٍ واضحةٍ تنعكس على مظاهر الحياة الاجتماعية، ورغم تجدُّد مفاهيم الغش وتنوعها؛ إلّا أنّها تتقارب وتتّفق في مضمونها، وإن لم تنطبق بشكلٍ كلّي، فجميعها يقرر أنّ الغش من حيث المفهوم يتضمن الخيانة، بِحُكم أنّ الغش هو نقضٌ للعهد، وتفريطٌ للأمانة، وبمفهومه أيضاً يقترب من النفاق العملي؛ لأنّ الغشّاش يُضمِر للطرف الآخر خِلاف ما يُظهِر.
وقد نهى الدين الإسلامي عن الغش بجميع صورهِ وأنواعهِ، وتوعّد لكلّ من يمارسه بالويل والخسران؛ حيث قال تعالى في كتابه العزيز: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ، الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)،[٢] فهذه الآية من سورة المطففين هي الدليل على الحرمة في سلوكِ الغش الذي عرفه ابن حجر، فقال: (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل)، وقال الكفوي في الغش هو: (سواد القلب، وعبوس الوجه، ولذا يُطلق الغش على الغل والحقد)، وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حرمةِ الغش وحذر أصحابه من التعامل به، وتوعّد من يفعله، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه : (أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ على صُبرةِ طعامٍ، فأدخلَ يدَهُ فيها، فنالت أصابعُهُ بللًا، فقالَ ما هذا يا صاحبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتهُ السَّماءُ، يا رسولَ اللَّهِ ! قالَ أفلا جعلتَهُ فوقَ الطَّعامِ كي يراهُ النَّاسُ؟ من غَشَّ فليسَ منِّي)،[٣] فهذا الحديث يبيّن الغش المحرّم الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم.[٤]
وقد ورد الحديث الشريف الذي يدل على حُرمة الغش برواياتٍ أخرى، منها ما رواه مسلم في صحيحه: (مَن حمل علَينا السِّلاحَ فليسَ منَّا، ومَن غشَّنا فليس منَّا)،[٥] وقول النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس منا دلالة على الزجر الشديد منه عن الغش ، والردع عن فعلهِ والقيام به، وقال الخطابي أنّ معنى قول النبي هذا: أنّ من غش ليس على سيرتنا ولا على مذهبنا، وهذا المثال الذي ضربه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغش في البيع قد أثبت حرمته باعتبار أنَّ الذي غش قد أكل أموال الناس بالباطل، وللغش أضرارٌ أخرى منها: أنّه دليلٌ على نقص الإيمان لدى الشخص، وهو طريقٌ موصلٌ للنار، وسببٌ في حرمان صاحبه من إجابة الدعاء، والبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن الناس، كما أنّه سببٌ في ذهاب البركة في المال والعمر.[٦]
مظاهر الغشتتعدد صور الغش التي يمارسها الناس في حياتهم، لتظهر بمظاهر عديدة، وسنتحدّث بالتفصيل عن مظاهر الغش في كل من: البيع والشراء، والزواج، والاختبارات، وهي كالآتي:[٧][٨]
الغش في البيع والشراءيكثر هذه الأيام الغشُّ في البيع والشراء بين النّاس والذي يتمثّل بإخفاء العيوب الموجودة في السّلع، فيكون الغشُّ في نوع البضاعة أو وزنها أو في كميتها أو مصدرها، وتكون صور الغش في البيع والشراء على النّحو الآتي:
ظهر الغش بين الناس في أجمل وأفضل العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الناس بروابط عديدةٍ من المحبة والتواصل والتراحم، ألا وهو الزواج، ومن مظاهر الغش التي مارسها البعض في الزواج ما يلي:
يُعتبر الغش في الاختبارات كما أشارت الدراسات التربوية من أكثر الأنواع انتشاراً، والسبب في ذلك يعود إلى غياب العقوبات الرادعة لهذه الظاهرة، وسعي الطالب إلى النجاح والتفوق، والتحصيل العالي للعلامات، دون بذل جهدٍ أو تعبٍ في ذلك، وله آثارٌ سلبيةٌ عديدة، منها أنّه يُقلل من احترام الطالب لذاته، وتقدير الآخرين له، وانعدام الثقة بين المدّرس والتلميذ، وضعف ثقة الطالب بنفسه، وزيادة اعتماده على الحِيَل للوصول لما يُريد، ومخالفتهِ للقوانين والأنظمة، وبُعده عن السلوكيات الأخلاقية الجميلة التي تدعو إلى الصدق والأمانةِ وتحمل المسؤولية.
المراجعالمقالات المتعلقة بمفهوم الغش