عند ظهور الحرب العالميّة الثانية اتخذت الإنسانية منحنى وحدة المصير، من خلال الاشترك في القضايا الكبرى، وتشكيل ارتباطات توحد همومها وتطلعاتها، إضافةً إلى توحيد شعورها بالمخاطر التي تهدد الإنسانيّة، والأهميّة العظمى للعمل المشترك، إضافةً للتعايش المشترك وعوضاً عن منطق الصراع الذي غالباً ما تكون نهايته مأساويّة لجميع الأطراف والمحاور.
أمّا على المستوى الفكريّ، فقد تعمق هذا الوعي بشكلٍ أكبر؛ حيث بدأت تتوالى الكتابات في الغرب بشكلٍ خاص عن طبيعة العلاقات الدوليّة التي سيكون من شأنها حكم العالم، وعلى وجه الخصوص وقت انهيار المعسكر الشيوعي المتمثل بالاتحاد السوفيتي السابق، وخلوّ الساحة الدوليّة للهيمنة الأمريكيّة وحلفائها، ومن هنا يتضّح مفهوم الحضارة العالميّة، وهي التي تهيمن وتسيطرعلى العالم بشكلٍ تام.
نهاية التاريخ وصدام الحضاراتبعد صدور كتاب فوكوياما (نهاية التاريخ)، وكتاب (صدام الحضارات) لصامويل هنتنجتون؛ حيث أورد فوكومايا في كتابه بأنّ السيادة ستكون لقيم الديمقراطيّة الليبراليّة من خلال هيمنتها على العالم، وتحولها إلى المصير الوحيد الذي يجب أن تقبل به الإنسانيّة.
أمّا هنتجتون فقد تنبأ بأن الصراع في المستقبل لن يكون بين دولٍ وطنيّة، أو محاور سياسيّة أيديولوجيّة، بل بين الحضارات، وهذه الحضارات من وجهة نظره تعتبر الإطار الثقافي الأوسع في كافة المجتمعات، ومن هنا فإنّ خطوط التماس الحضاري سوف تشهد صدامات دمويّة، كتلك التي وقعت في البوسنة، والهرسك، والصومال، وكوسوفا وأماكن أخرى حول العالم، وهذا بالفعل ما يحدث الآن في فلسطين وسوريا والعراق.
حوار الحضاراتسارعت الأمم المتحدة والعديد من الدول غير الراغبة في تلك الصدامات، إلى تبنّي مقولة (حوار الحضارات)، وفي عام ألفين واثنين أعلنت الأمم المتحدة أن هذا العام هو عام حوار الحضارات، ثمّ شاع بعدها أدب الحوار بين كافة الحضارات في مختلف الدوائر الفكريّة، والدينيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، وقد زاد في أهميّة هذا الأمر تنامي ظاهرة العولمة وتعاظمها واقترانها بمرحلةٍ تاريخيّةٍ هامة من حياة الإنسانيّة، تميزت بالعديد من المحاولات لإزالة كافة الحواجز في وجه القوّة الأمريكيّة، من خلال استخدام جميع الأدوات الحربيّة والسلميّة في سبيل فرض الهيمنة على العالم، وتوجيهه وفق التطلّعات التي يراها البيت الأبيض، والنخبة المتواجدة من بارونات المال والأعمال في مراكز الأبحاث والقرار والدراسات الاستراتيجيّة في أميركا بوجهٍ خاص والغرب بشكلٍ عام.
المنطقان المتعاكسان اللتان تحكمان حوار الحضاراتكثر الحديث عن حوار الحضارات والأديان والثقافات، الأمر الذي يدل على مدى الوعي بالصعوبات التي تعترض الجميع في شتّى أرجاء العالم، ويدل كثرة الحديث عن هذا الموضوع من جانبٍ آخر على الاختلالات التي تعترض منظومة العلاقات السائدة بين كافة الأمم، وأنها لم تعد نافعة أو عادلة، إضافةً لعدم قابليتها للممارسة أو التنفيذ بشكلٍ يمكن أن يحقق مصالح إنسانيّة كالسلام والأمن والتقدّم، وعلى وجه الخصوص تلك الاختلالات التي تعاني منها منظومة القيم والثقافة الأمريكيّة والغربيّة، وخاصّةً ما دلّت عليه أحداث الحادي عشر من أيلول
يظهر سبب تلك الاختلالات التي ترجع في جوهرها إلى منطقين متعاكسين في المنطلق والاتجاه، ونظراً لتعاكسهما فإنّ مصير الإنسانيّة مهددٌ باستمراريّة هيمنة وغطرسة الدول العظمى التي تجد في نفسها القدوة والحضارة، أو استمرار حالة الاحتقان التي تسود العديد من المناطق حول العالم.
بالنسبة للمنطقين المتعاكسين فهما المنطق التاريخي الذي يقضي بالبشريّة إلى وحدة الحال والمصير بفضل التزايد المستمر في التقدم، والذي بالتالي يزيد من ترابط المصالح المشتركة بين الأمم والدول، إضافةً للتقدّم التكنولوجيّ الكبير والذي أدّى إلى تحوّل العالم إلى قريةٍ صغيرة بفعل التقارب الذي نتج عن هذا التطوّر الهائل في الزمان والمكان، ومن جهةٍ ثانية يتجسّد منطق الهيمنة الغربيّة على العالم، والسعي لفرض نمطٍ عنصري محدود الأفق قاصر في مداه ورؤيته، وماديٌ في طموحاته وتوجهاته ومتحيّزٌ في قيمه، وصداميٌ في طريقة تعامله؛ حيث يسعى هذا النموذج من خلال ما يملكه من غلبةٍ حضاريّةٍ مؤقتة، فرض ثقافته ومعياره على كافة دول العالم، الأمر الذي ينتج عنه رفضاً واعتراضاً من باقي الكيانات الحضاريّةِ الأخرى. ومن هنا تظهر إشكاليّة قائمة على نقطتين غايةً في الأهميّة، هما:
المقالات المتعلقة بمفهوم الحضارة العالمية