الموتَ حقيقة واقعة لا يُنكرُها مُؤمن ولا كافر، وقد كتبهُ الله سبحانه وتعالى على جميع خلقه، ولم يَستَثْنِ من ذلك أحداً حتّى أَحَبَهم وأَقربَهم إليه، بل أَذاقهُ لرُسلهِ وأَنبيائهِ، قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).[١]
فالإنسانُ لم يُخلَقه الله سبحانه للخلودِ على وجهِ هذه الأرض، بل إنّ الله سبحانه قد استخلفهُ فيها كي يُؤدّي المَهمّة التي خُلِقَ من أجلهِا؛ وهي عبادة الله وتوحيده وعدم الشرِك بعبادته، فإن حان أجل العبد وأدركته المَنيّة ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، وأول منازل الآخرة هو القبر، فما يحدث في القبر؟ وهل هو نعيم لصاحبه، أم عذاب دائم؟
حقيقة عذاب القبرالقبر هو المكان الذي يوضع فيه الإنسان بعد انتهاء أجله، وهو أول مراحل انتقال الإنسان من الدنيا الزائلة إلى الآخرة دار القرار والخلود، وقد ورد في السنة الكثير من الأدلة على وجود حياة أخرى في القبر، سمّاها البعض من العلماء بالحياة البرزخيّة، فقال رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام-: (القبرُ روضةٌ مِنْ رياضِ الجنةِ أوْ حفرةٌ مِنْ حفرِ النارِ).[٢]
سُمّي عذاب القبر تَغْلِيباً؛ لأنّه قد يكون عذاباً في القبر أو عَذَابَاً في غير القبر؛ يعني أنَّ العبد إذا فارَقَتْ روحه جسده فإمَّا أن يُنَعَّمْ وإمّا يُعَذَّبْ، وغالب البشر من جميع الدّيانات والمِلل والنِّحَلْ يُقْبَرون، فلذلك أصبحت سِمَةً للمسألة باسم نعيم القبر أو عذابه، وإلا فحقيقته عذاب البرزخ أو نعيم البرزخ؛ ذلك أنَّ الحياة المقصودة بالتَّنَعُّمِ أو العذاب هي الحياة الثانية، أي الحياة البرزخيّة.
فالحياة ثلاث: الحياة الدنيا، والحياة البرزخيّة، والآخرة وهي دار القرار. والمقصود بالحديث عن عذاب القبر بالحياة البرزخية فذلك لكل من دُفِنَ أو من لم يُدْفَن، أو أُحرِقَ وذُرَّ ما تبقى من جسده، أو من أُكِل من سبع فتَفَرَّقت أَجزاؤه، أو رُمِيَ في البحر أو النهر، ولم يُقبَر، فجميع من ذُكِروا صاروا إلى حياةٍ برزخيّة.
عذاب القبرعام لجميع فئات الأمة، ويشمل غير المُكلَّفين؛ كمن مات وهو صغير ولم يبلغ سن التّكليف بعد، أو مات وهو مجنون ممّن ليسوا مَحلّ التكليف، ذلك أنّ المُتقرّر عند علماء الإسلام أنّ نعيم غير المُكلَّفين يكون تبعاً لحال آبائهم؛ فإن كان آباؤهم مسلمين كان هؤلاء من أهل الجنة، وعليه فإن الذين يموتون من أطفال المسلمين هم من أهل الجنة ومن أهل النعيم؛ باعتبار أنهم ماتوا الفطرة ولم يَجرِ عليهم التّكليف.
فالصغير يكتب الله سبحانه له الحسنات ولا يكتب الله عليه السّيئات؛ لأنّ الصغير لم يَجرِ عليه القلم، فإن عمل بحسنة كتب الله له ذلك ويثاب عليها، وإن عمل بسيئة فالله لا يؤاخذه عليها، فيُعتَبر تنعُّمه في القبر باعتبار الأصل.[٣]
سؤال الملكين في القبرلله سبحانه وتَعَالَى ملكَيْنِن، يُسمى أحَدهمَا مُنكر، وَالْآخر نَكِير، يأتيان الْمَيِّت فِي قَبره؛ فإمَّا يُبشّران العبد وَإِمَّا يُحذّرانه، وسُؤال الملكين مُنكر وَنَكِير حقّ، ودليل ذلك حديث عطاء بن يسار: ( قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ لعمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ: يا عمرُ كيفَ بك إذا متَّ، فقاسوا لك ثلاثةَ أذرعٍ وشبرًا في ذراعٍ وشبر، ثم رجعوا إليك وغسَّلوكَ وكفَّنوك وحنَّطوك، ثم احتملوك حتى يضعوكَ فيه، ثم يُهيلوا عليك الترابَ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتَّانا القبرِ: منكرٌ ونكيرٌ، أصواتُهما كالرعدِ القاصفِ، وأبصارُهما كالبرقِ الخاطفِ، فتلتلاكَ وثرثراكَ وهولاكَ، فكيفَ بك عِندَ ذلك يا عمرُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ومعي عَقْلي؟ قال: نعم. قال: إذاً أَكْفِيكُهما).[٤]
وسؤال الملكين يكون عن ثلاثة أمور: أولاً عن ربه، ثانياً عن دينه، ثالثاً عن نبيه. روى عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله عليه الصّلاة والسّلام إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، واسْأَلُوا اللهَ لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسَأَلُ).[٥]
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (لولا أنْ لا تَدافنوا لدعوتُ اللهَ أنْ يُسمِعَكمْ مِنْ عذابِ القبرِ).[٦]
يُفهم من الأحاديث أنّ هناك لأهل القبور حياة يدركون بها ويشعرون بالنعيم والعذاب، حتى وإن تفتّتت أجسادهم، وأما الكيفيّة فأمرها غيبيّ لا يمكن إدراك حقيقته. والميت في ذلك فحاله كحال النائم، يشعر بما حوله دون أن يرى.[٧]
الإيمان بوجود الملكين في القبرالإيمان بسؤال الملكين منكر ونكير واجب شرعاً؛ لثبوت ذلك عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- في أخبار عدّة يبلغ مجموعها درجة التّواتر، فسؤال الملكين وارد في القرآن الكريم والسنّة النبويّة في أكثر من موضع،[٨] وقد استنبط العلماء ذلك واستدلّوا عليه بقوله سبحانه وتعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).[٩]
في السنّة النبويّة رُوي أن رسول اللهِ -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتولى عنه أصحابَه، وإنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهم, أتاه ملكانِ، فَيُقعَدانِه فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللهِ ورسولُه، فَيُقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنةِ، فيراهما جميعًا. قال قَتادَةُ وذكر لنا: أنه يُفْسحُ في قبرِه، ثم رجع إلى حديثِ أنسٍ، قال: وأما المنافقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فَيُقالُ: لا دَريتَ ولا تَليتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً، يَسمعُها من يليِه غيرَ الثقلين).[١٠]
المراجعالمقالات المتعلقة بما هو سؤال الملكين في القبر