كان أبو الطيّب المتنبيّ ظاهرةً عجيبة من ظواهر الكون؛ إذْ جاء إلى الحياة فأشغل الناس وملأ الدُّنيا، وأقعدَ الشُّعراء بعده، وترك وراءه إرثاً أدبيّاً عظيماً؛ مجّده كثيرٌ من النّاس وازدراه آخرون، فمن هو المتنبيّ؟ وكيف نَشأ؟ وكيف مات؟ وبماذا تميّز؟
حياة المتنبّيهو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفيّ، ولقبه أبو الطيب، وُلدَ في منطقةِ كندة في الكوفة عام 916م الموافق 303 هجري، ولها نُسب. اشتُهرَ المتنبّي بالشِّعر، وهو أحد رموز الأدب العربيّ ومفاخره، كتَب الكثير من الحِكَم البليغة والأمثالِ الباقية؛ حيثُ إنّ ديوانه الشعريّ قد طُبع مئات المرّات ولا زال يُطبَع إلى الآن.[١]
عاشَ المُتنبيّ في الشّام ونشأ فيها، ثمّ ذهبَ يتنقَّل في البادية طالباً علم العربيّة شعراً ولُغةً وإعراباً، والأدب وأيّام النّاس، فنَشأ خيرَ نَشأةٍ، وقد عاشَ في فترة الخلافة العباسية في أحلك فتراتها وتمزّقاتها السياسية والاجتماعية.[١][٢][٣] بدأ نطق الشِّعر وتأليفه وهو صبيّ، وقد عاصر سيفَ الدولة الحمداني ومَدَحه وكان ذا حظٍّ عنده، كما ذهب لفارسَ والعِراق فمدحَ عضد الدولة ابن بويه الديلمي، ومدح كافور الإخشيدي في مصر طالباً إياه الولاية، فلم يُعطه،[٢] فهجاه قائلاً:[٤]
لا تشتَرِ العبدَ إلاّ والعَصا مَعهُ
إنّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ سبب تسميته بالمتنبّيتختَلفُ الأقوال في سبب تسميته بالمُتنبّي، والأقوال هي كالآتي:
سَمَع المُتنبّي بسيف الدّولة الحمداني وأفضاله، وقد كان يقرُبُه في السِّن؛ فجاءه وطلبَ منه أنْ يمدحه بشعره، فأجاز له سيف الدّولة الحمداني ذلك، وأكرمه على قصائده وقرّبه منه، وسادت بينهما المودة والاحترام، إلّا المتنبّي قد اشتُهر بإفراده جزءاً كبيراً من قصائده لنفسه؛ حيثُ يُقدّم مدح نفسه على ممدوحه، ممّا أحدث جفاءً بينه وبين عضد الدّولة والذي زاده كارهوه في بلاط سيف الدّولة، وبعد جفاءً طال من سيف الدّولة جافاه المتنبّي كذلك، وغادره إلى مصر حزيناً قائلاً في قصيدة مطلعها:[٥]
وَاحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلْبُهُ شَبِمُ
ومَن بِجِسمي وَحالي عِنْدَهُ سَقَمُما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قد بَرَى جَسَدي
وتَدَّعِي حُبَّ سَيفِ الدَولةِ الأُمَمُوأنهاها مُعاتباً بقوله:[٥]
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بهِ
وشَرُّ ما يَكْسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُهذا عِتابكَ إِلاَّ أَنَّهُ مِقَةٌ
قد ضُمِّنَ الدُرَّ إِلّا أَنَّهُ كَلِمُذهبَ المتنبّي لمصرَ طمعاً في ولايةٍ يوليها له كافور الإخشيديّ -على كرهه إياه لكونه عبداً- فمدحه ولم يكن مدحه صافياً؛ إنّما أدخل فيه جفاءه وحنينه لسيف الدّولة الحمداني، فقال في مطلع أول قصيدةٍ مدح بها كافور الإخشيديّ:[٥]
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِياتَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى
صَديقًا فَأَعيا أَو عَدُوًّا مُداجِيالكنّ الإخشيديّ كان حذراً فلم يُعطِ المُتنبّي مُراده، فهجاهُ وهجا مصراً هِجاءً مُرّاً، وغادرَ مصرَ في يوم عيد، فقال قصيدته التي تضمنّت هجاءً لكافور الإخشيدي وحاشيته، ومطلعُها:[٥]
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُأمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُبعد ذلك توّجه إلى فارس ليمدحَ عضد الدّولة فيها، ثمّ شدّ رحاله بعد ذلك عائداً إلى بغداد حاملاً كلّ ما جمعه ممن مدحهم، ولم يرغب أن يستعين برجالٍ يحمونه من لصوص الطّريق، فلم يُرافقه حينها إلاّ ابنه محسَّد وغلامه، فاعترضَ طريقه رجلٌ يُدعى فاتك بن أبي جهل الأسدي ورجاله،[٥] وهو رجلٌ كان قد هجاه المتنبّي، وقد أوشك المتنبّي أن يفرّ حين تيقّن أنّ مهاجميه لهم الغلبة، فبادره غلامه بقوله: (لا يتحدّث الناس عنك بالفرار وأنت القائل: الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ)، فردّ عليه المتنبي قائلاً: (قتلتني قتلك الله)، فعاد للقتال فقاتل إلى أن قُتل ومات.[٥]
تميُّز المتنبّيلم يحظ شاعرٌ من شعراء العربيّة بمثل ما حظي أبو الطيّب المتنبّي من مكانةٍ عالية، فقد كان أعجوبةً أعجز الشعراء بعده؛ حيثُ بقي شعره إلى الآن يُقرأ ومصدر وحي للكثير من الأدباء والشُّعراء، ومليءٌ بالقوّة والشاعرية القائمة على التجربة الصادقة والحس، وقد أبدع المتنبّي في صياغة أبياته صياغةً تأسرُ الألباب والعقول، فقد كان شاعراً ينتمي لشعراءِ المعاني؛ حيثُ كان موفِّقاً بين الشعر والحكمة، وقد أخرجَ الشّعر عن قيوده وحدوده وابتكرَ الطريقة الإبداعيّة فيه.[٥]
يُمثّل شعرُ المتنبّي صورةً حقيقةً وصادقةً عن حياته وأحداثها من اضطرابات وثوراتٍ، كما عرضَ ما كان في عصره من آراءٍ ومذاهب، كما مثّل شعره حياته المُضطّربة؛ ففيه عبّر عن عقله وشجاعته، وطموحه وعلمه، ورضاه وسخطه، وتمثّلت القوة في شعره بقوّة ألفاظه وعباراته ومعانيه.[٥]
المراجعالمقالات المتعلقة بكيف مات المتنبي