مقدمة عن الأم

مقدمة عن الأم

قليل من رذاذ ضوئك يخنق العتمات، النّطق باسمك يروي الرّوح ويغذّي زواياها، يا ياسمينة بيضاء نقيّة، يا بلّورة ثلج تشفي الجروح وتطفئ الصرخات في جوف الحزين، أمّي ثمّ أمّي حتّى آخر أنفاسي وعمري، هي نفسٌ باقٍ لا عمر له لينتهي، قلب يضخّ الرّبيع لعالمي، أمّي في همسي وفي جهري أحبّك ملء جوارحي، وأطرّز باسمك أسقف دربي، ومنه أصنع باقاتٍ لتكون مهجاً لعيني، أمّاه لو ضعت أنا، فأين أضيع إلى سواكِ؟ يا غيمة تقطر حبّاً، تقطر عمراً ليتني أفنيه برضاكِ، رئة ثالثة تنتقي أيّ النسمات لأستنشقها، تخاف عليّ منّي قبل الورى، فلا عاش من بالحزن أحياكِ.

الأم ذلك الطّيف الدّافئ الذي كلّما زار أيّامنا الباردة دفّأها، وإن رآها موحشة آنسها، وإن كانت مظلمةً أضاءها، فهي النور الذي يراود كل ظلام يقتحم حياتنا ليطرده، هي القلب الذي يحتفظ باسمنا بين نبضاته، هي عنوان لطيف حُفِر في المدن العتيقة، وبقي عبقه إلى الآن في المدن الحديثة.

الأم لا تتغيّر مع الزّمن، فالحب ضعف الحب، والعطاء ضعف العطاء، وتمضي السنين ومعها الأجيال ولا تزال تتربّع على عرش الوفاء، ولا يزال يعود لاسمها الأبناء يردّدون في أركان روحهم بصوت يقطع صداه خرائط الأرض "لا يوجد مثل أمّي"، هذه العبارة التي لا بدّ أن يقولها المرء مهما علا قدره، ومهما أمضى من عمره وهو لا يؤمن بها، فإنّه لا بدّ قائلها بكلّ أحواله، سواءً حين يتخلّى عنه أقرب الناس إليه فلا يجد صدراً أحنّ عليه من صدرها، أو حين يجتمع حوله النّاس من كلّ حول وصوب لأجل نجاح حقّقه أو نعمة رزقها، فلا يجد بينهم من يفرح له من أعماقه مثلها.

هي نبع السّكينة، وموطن الرحمة، هي جنّة الدنيا، ومهما اجتمعت حروف، واصطفّت كلمات، وصيغت عِبارات وانسكبت في مدحها عَبَرات، ومهما بُذِل في سبيل ردّ معروفها سنوات، وضِيعت لأجل عينيها ثروات، لا شيء ولا أيّ شيء يوفيها حقّها.

في شجرة العائلة هي ذلك الغصن الأخضر النديّ، ولو كانت كلّ الأغصان حوله شاحبة اللون قاسية، يحيلها خضراء نضرة، تزهر وتثمر، وتزخر طيباً وثباتاً بعد أن كانت تتهاوى موشكةً على السّقوط.

هي تلك الأغنية التي تترنّم بغنائها القلوب قبل الشّفاه، وحبّها معركة خاسرة تنتهي قبل الصّراع باعتراف "لا أحد يشبه نقاءها"، لا نسمةَ تَشفي كالنّسمة التي تنبعث عند مرورها، تمرّ أيّام ونحن أمواتٌ أحياء، حتى إذا لقيناها ضلّ الموت طريقه عنّا، وعدنا لنحيا بها بعد الجّفاف كزهورٍ تخضرّ حين تُسقى بماء يختلف عن سائر الماء، وتبقى القصائد تُغزلُ في حضرتها دون أن توفيها قطرةً من محيط عطائها.

 

المقالات المتعلقة بمقدمة عن الأم