إنَّ القاصد والمتوجِّهَ لأحدٍ من الخلق؛ ممَّن علا في الدنيا شأنهم، وارتفعت مكانتهم، ونودي بسلطانهم، إذا ما أراد منهم شيئاً فإنَّه يعرفُ غايتهُ بمقابلتهم في مواطنهم وقصورهم؛ ليأتي على حاجته من قصير طريقها؛ فالمقابلة لها أسرارٌ في القبول غيرَ وسائلِ الطلب الأخرى؛ وكذلك عبادُ الله المتوجِّهينَ إليه سبحانه، أمتنَّ عليهم بأنْ جعل لهُ بيوتاً في الأرض يَعْمُدونَ إليها لقضاء حوائجهم من: التقرب، والعبادة، والتضرع؛ وهي المساجد
إنَّ المتأملَ في تاريخ الأمَّة الإسلامية حال المقارن ما بين تقدُّمها بين الحضارات، وأخْذها دورَ الريادة، وما بين واقعها المُنتكس؛ لَيجدُ رابطاً عجيباً، فما ازدهرت حضارتهم إلاّ بعمارةِ مساجدهم؛ عمارةَ العبادةِ لا عمارة التشييد، فقد كان المسجد هو: مجلس الشورى، ومدرسة العلم، ودار العبادة، ومنتدى التواصل الاجتماعي، ونادي الفكْر والثقافة، يَنْزُلونَ مساجدهم فتنزلُ عليهم الرحمة والسكينة وتحفُّهم الملائكة، يذكرون الله فيذكرهم؛ فهو سبحانه جليس من ذَكَرَهُ .
المسجد دار حلقات العلم، فانَّ مجالس العلوم المختلفة التي دُرِّسَتْ في المساجد كانت المُنطلقَ الرئيس لتطور تلك العلوم، فهي مهدُ علم الناشئة، وبيئة تدريبهم؛ لِتنارَ الدنيا بعلمهم وعملهم، فبيئة التعليم الموجودةُ في المسجد ليست كغيرها من البيئات من مَحِلِّ التناقل والتدراس، فهي تَصْرفُ عن المُرِيدِ شُجونَ الدنيا وشهواتها وتعطيلها على العقول والقلوب، فتصفوا للذهون عباراتُها، ويقوى لملكة التحليل والحفظ نبراسها، وتستنير قوةُ الاستدراك، وتتمرَّدُ أقلام التأليف على المحصور، فَكلها أحوالٌ لا يعلمها إلّا من جرَّبها وعايشها في بيئة المسجد.
إنَّ الباحث عن متعة المأكل والمشرب ليجدُ من خلال اجتماعه على مائدة المُحبِّينَ لذة للاجتماع تفوق لذة المأكل نَفْسَهُ؛ نظراً لما ترتاح له النفس من مجاورة ومشاركة المحبين عليها، ومن باب أولى كانت الروح التي هي من الجسد أسمَى؛ لتغازل غذائها الروحي بسكنات وحركات الصلاة بين جموع المحبين الذين ما جمعتهم إلّا مائدة الرحمن في بيت من بيوته؛ ليضاعفُ لهم الأجْرُ، ولِتسعهم شمولية الرحمة، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم حين بيَّن منزلة الاجتماع على مائدة الخالق سبحانه، مقيداً ببيت من بيوته؛ قائلاً: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
إنّ البيوت وإن اتسعت دواوينها فهي ليست كبيوت الله التي جعلها لعباده في الأرض يدخلون إليها بدون استئذان، ولا يحتاجون تصريحا بذلك، وهو حقٌّ لكل مسلم على وجه الأرض، مهما اختلفت جنسيتهم وطبقتهم ومنزلتهم، فالمسجد يجمع شرائح المجتمعِ بكافة أطيافهِ، لا أولولية لأحدٍ على أحدٍ، ولا طبقية بينهم؛ تساووا في المسجد فيما بينهم، وكيف لا؟! وهم في بيت من خلقهم.
المقالات المتعلقة بأهمية المسجد في حياة المسلم