أحاول في هذه الصفحات أن يعرف القارئ أن الحضارة لا تتمثل فحسب في عظام المنشآت كالأهرام أو قصور فرساي أو العمائر الشاهقة التي تصعد في الجو، كأنها تنطح السحاب في نيويورك ، بل هي تتمثل في صورة أوضح وأصدق في صغار الإكتشافات التي تقوم عليها حياة البشر. فرغيف الخبز مثلا أنفع للبشر من الوصول إلى القمر ،وبالفعل أنفقت الإنسانية عشرات الألوف من السنين حتى وفقت إلى صنع رغيف الخبز أو إناء من الفخار ، وانتقلت نتيجة لذلك من حقبة من التاريخ إلى حقبة أخرى جديدة ، والعبرة في منجزات البشر بما ينفع أكبر عدد من الناس وييسر لهم أسباب الاستقرار والأمن ،لا بما يبهر العيون ويرد الإنسان إلى الشعور بالقلق وانعدام الأمن ، لأن الذين ينفقون الملايين ليهبطوا على سطح القمر قصدوا أول ما قصدوا إلى إظهار امتيازهم على غيرهم وسبقهم لبقية الناس في ميدان التقدم ، وهذا زهو وغرور ينطويان على شر، فهما في الحقيقة تهديد للآخرين ، إذ إن الصاروخ الذي دفع مركبة القمر في الفضاء يقوم على النظرية نفسها التي يقوم عليها الصاروخ الذي يعبر القارات ليخرب المدن ويقضي على ألوف الناس.
فرغيف الخبز وإناء الفخار مقياسان أصدق للتقدم الحق من الوصول إلى القمر والعودة بقطع من حجارته ، لأن رغيف الخبز نعمة لا يأتي منها إلا خير ، وإناء الفخار اختراع أدخل على حياة الإنسان تيسيرا بعيد المدى ، وكلاهما نقطة تحول في تاريخ الإنسان. أما الأهرام أو قصور فرساي أو ناطحات السحاب أو مركبات القمر فماذا تعني؟ فأما الأهرام فتعني أن ألوف البشر ظلوا يعملون عشرات السنين لينشئوا قبراً لإنسان واحد ، وقصور فرساي تعني أن جهود ألوف أخرى قد صرفت على عمل منشآت يزهو بها ملوك لم يعرفوا في حياتهم غير الظلم والأنانية واحتقار الناس ، وأما نواطح السحاب فقد ثبت بالبرهان أن العيش فيها يصيب النفس بالكآبة وضيق النفس وجفاف الطبع الإنساني ، وأما مركبات القمر فأي نفع عادت به على الإنسان ؟
المقالات المتعلقة بهل تسألت يوما ما معنى الحضارة