يتميّز الشعر العربي الّذي يعدّ ظاهرةً في الحياة الإنسانية بأنّه قد التزم وزْنَاً وقافيةً تزيد من مدى تأثيره في النفوس، وتعمًّقه فيها؛ لتطرب له الأذن، ويطيب للسامع إحساس مشاعره، وبقي إدراك الوزن ملكةً سماعيّة مكتسبة، وإحساس داخليّ مفعم لم ير التقعيد، اختُزلَ في بصائر نفوس الشعراء والنقاد، حتى جاء من يقنِّن لهذه الأوزان الشعريّة ما يجمعها على وزن ومَقامٍ موسيقي، وذلك ضمن عمل فريد قد احتاج لعبقريّ جمعَ اللغة والبلاغة ومكنونات الشعر، وامتلك الأذن الموسيقيّة المرهفة والعقل المدرك؛ لِيُعْمِلَهُ فيها، وهو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي.
نشأة الفراهيديوُلدَ الفراهيدي في البصرةِ مطلعَ القرنِ الهجري الثاني لعام مائة للهجرة، وتوفّي بعد سبعين عاماً من حياته، وذلك في العام السبعين بعد المائة للهجرة؛ ليعاصر دولة العدل الأموي (إمارة خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز)، نشأ وترعرع بين زحازيح وطحاطيح اللغة الأفذاذ الّذين تلقَّى على أيديهم العلم أمثال: عيسى بن عمرو الثقفي، وأيّوب السختياني، والعوام بن حوشب، وغالب بن خطاف القطان، وعثمان بن حاضر الأزدي، وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم بن الأحول البصري.
خلق الفراهيديّ وعلمهاتّسم الفراهيدي بزهده في الدنيا؛ فذلك يظهر جليّاً ممّا يروى عن معيشته ومأكله ومشربه وملبسه، فكان عزيز النفس، لا يأكل إلّا من عرق جبينه، وكان غِناهُ في فَقْره، كما عرف عنه إخلاصه لرسالة العلم وتفانيه في طلبها؛ فهو كما قال عنه العلّامة المحدث سفيان ابن عيينه: (من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد)، وقد تميَّز الفراهيدي بقوّة تلاميذه الّذين درسوا على يديه أمثال: حُجَّةُ اللغة العربية سيبويه، وعبد الملك الأصمعي، والليث بن المظفر، وحمّاد بن زيد، وعلي بن نصر الكبير، وموسى بن أيّوب، ويزيد بن مرّة، وهارون بن موسى.
برع الفراهيد ي في العديد من مجالات اللغة، وساعده ذكاؤه المتوقِّدُ وقوَّة عقله؛ حيث أتى بالجديد من الاكتشفات والتغييرات والتطوير على مستوى اللغة، فمنْ أهم مُنجزاته: تأسيسهُ لعلم العروض؛ حيث يروى بأنّه سمع عزفاً لأبيات من الشعر حرّكت خواطره فأعملها فيه، وأخذ يدندن بتلك الأبيات حتى توصّل لتوزيعة موسيقية معيّنة اعتمد فيها على التقطيع الصوتي للأبيات الشعرية؛ ليمضِيَ بعدها بدراسة الشعر العربي من كافة أطيافه ومنابعه، وليجمع ما تشابه تقطيعه الصوتي بوزن واحد حتّى جمع خمسة عشر وزنا تقسّم إلى بحور وهي: (الطويل، والمديد، والبسيط، والخفيف، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع، والمنسرح، والوافر، والمضارع، والمقتضب).
المقالات المتعلقة بمن وضع بحور الشعر العربي