لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين بالمغفرة والرَّحمة التي ليس لها مثيلٌ نعرفه؛ حيث يقول الله تعلى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) [النِّساء: 48].
من بين الأمور التي يغفرها الله سبحانه وتعالى ما يُقصِّر به بعض المسلمين في أداء الصَّلاة المكتوبة بوقتها، فمنهم من يُفرِّط بأدائها متعمِّداً من غير عذرٍ شرعيٍّ، ومنهم من يُجبَر على تركها لسببٍ معيَّن، ولذلك يكون على المسلم قضاء هذه الصَّلوات في وقتٍ لاحق.
لكن يكون هذا القضاء كثيراً، وخاصَّةً لمن فاتته صلاة عدَّةِ أشهر، أو حتَّى عدَّةِ سنوات؛ ولذلك سنبيِّن حالات الصَّلوات الفائتة، وحكم من فاتته هذه الصَّلوات، كان متعمِّداً، أو مجبراً، وأحكام كلِّ حالةٍ على حِدة.
لقد بيَّنَّا سابقاً من يجب عليه قضاء الصَّلاة الفائتة لفترةٍ طويلة؛ حيث إنَّنا لم نتطرَّق لمن فاتته صلاة واحدة أو أكثر، بسبب نسيانٍ، أو نومٍ، أو مرض، لأن هذا ليس هو موضوعنا الأساسي، وأمَّا الآن فسنبيِّن كيفية قضاء الصَّلوات الفائتة من أسابيع، أو أشهر، أو سنين، فهذه الحالات لا اختلاف بينها في الحكم، ولكن الاختلاف عند الفقهاء في كيفيَّة القضاء.
إن أوَّل شيءٍ يجبُ على من فاتته صلواتٌ بهذا الكم التَّوبة إلى الله توبةً صادقة، وأن يستغفره، وأن يعاهد نفسه أن لا يعود لهذا الذَّنب العظيمِ مرَّةً أُخرى، وأمّا بالنِّسبة لكيفيّة القضاء على أوسط الأقوال بين الفقهاء الأربعة، أنَّه يصلِّي مع كلِّ صلاةٍ صلاةً فائتة، وإن قَدِر على صلاتين فليفعل، بشرط أن لا يعارض هذا رزقاً يسعى إليه ليُعيل نفسه أو أهله، أو أن لا يضُرَّ بصحَّته.
اشترط المعظم أن تُقضى الصَّلوات بالتَّرتيب، إلا إذا نسي، أو ضاق وقتُ الصَّلاةِ الحاضرة، فالظُّهر قبل العصر، والمغرب قبل العشاء وهكذا، ولا يجوز له التَّنفُل بصلاةٍ إن كان عليه قضاء، إلا إذا كانت من السُّنن الرواتب، أو صلاة وترٍ، أو صلاة عيد [الفقه على المذاهب الأربعة، لعبد الرَّحمن الجزيري الطَّبعة الثانية 1424هـ - 2003 م].
قضاء المجنون الذي رُدَّ له عقله
إنّ المجنون الذي رُدَّ إليه عقله لا يجب عليه قضاء الصَّلوات الفائتة، حتَّى وإن كانت فترة ذهاب عقله طويلة، أي لعدَّة سنوات، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، كالمالكية [مواهب الجليل للحطَّاب (136/2)]، والشَّافعية [المجموع للإمام النَّووي (6/3)]، والحنابلة [كشاف القناع للبهوتي (223/1)].
روى عليٌّ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (رُفِعَ القلَمُ عَنْ ثلاثَةٍ : عنِ النائِمِ حتى يستيقِظَ، وعن الصبيِّ حتى يشِبَّ، وعنِ المعتوهِ حتى يعْقِلَ) [صحيح الجامع]، كما أنَّ للصَّلاة شروطاً حتى تُصبح واجبة، ومن بين هذه الشُّروط العقل، وهذا العقل مفقودٌ عند المجنون [مواهب الجليل للحطَّاب [136/2].
قضاء الصَّلوات لمن أُغمي عليه
إن المُغمى عليه لا يجب عليه قضاء الصَّلوات الفائتة، حتَّى وإن كانت فترة الإغماء قصيرةً أو طويلة، وهذا ما ذهب إليه المالكية [الشَّرح الكبير للدردير (184/1)]، والشَّافعية [المجموع للنَّووي (6/3)]، وغيرهم، وقد ذكر الزيلعي في حال المُغمى عليه، أنّ الواجبات تنبني على من وجب عليه الأداء، والمغمى عليه لا يجب أن يقضي الصَّلوات الفائتة، لأنّ الإغماء يختلف عن النَّوم؛ فالنَّوم يكون باختيار. [تبيين الحقائق للزيلعي (204/1)]، إذاً فمن يُغمى عليه لفترةٍ طويلة، أو ما يُسمَّى في وقتنا الحاضر بالغيبوبة الطويلة (الكوما)، لا يجب عليه قضاء الصَّلوات.
لقد اختلف العلماء في حكمِ قضاء الصَّلوات لمن تركها متعمِّداً، كثيرةً كانت أم قليلة على قولين، وهما:
المقالات المتعلقة بكيف أقضي الصلاة الفائتة من سنين