سورةُ النّور سورةٌ مدنيّةٌ، عدد آياتها أربعٌ وستّونَ، اشتملت على العديدِ من الموضوعاتِ المهمّةِ، ومنها بيان فرائضَ مختلفةٍ، وآداب حدِّ كلٍّ من الزّاني والزّانية، والنّهي عن قذفِ المحصناتِ، وحكم القذفِ، واللّعان، وقصّةُ إفكِ الصِّدّيقة السيّدة عائشة رضي الله عنها، وشكايةُ حال المنافقين، وخوضهم في الموضوع، وتشكيكهم بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي السّورة بيانٌ لحال المخلصين من الصّحابة الكِرام رضوان الله عليهم، وتفانيهم وحرصهم على حفظ ألسنتهم عن الخوض فيما يُغضِب الله سبحانه وتعالى، وبيان عظمة عقوبة الظُّلم والبهتان؛ لشناعة هذا العمل وشدّة قُبحه، وذمّ إشاعة الفاحشة بين الناس، والنّهي عن اتّباع الشّيطانِ وطُرُقهِ، وبيان أحوالِ أهلِ الإيمانِ بتزكية نفوسهم، ومدح عائشةَ رضي الله عنها، وبيان أنَّ الطيّبات للطيّبين، ولعن الخائضين فى حديث الإفك.[١]
واشتملت سورة النّور الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبيان أنّ ما رُمِيت به كان إفكاً، فهو كذبٌ وافتراءٌ، والتّحذير من العودة إليه أبداً، وتوعُّد الله عزّ وجلّ الذين يرمون المُحصَنات الغافلات المؤمنات باللّعنِ في الدّنيا والآخرة.[٢] وقولهُ تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)،[٣] جاء براءةً من اللهِ عزَّ وجلَّ للسيّدة عائشة رضي الله عنها في حادثةِ الإفكِ، كما وردَ في أكثرِ كتبِ التّفسيرِ، فسببُ نزولِ هذهِ الآيةِ حادثةُ الإفكِ.
حادثة الإفكحادثةُ الإفكِ من أصعبِ الحوادث التي مرّت في حياةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وزوجتهِ أحبِّ البشرِ إلى قلبهِ، السيّدة عائشة رضي الله عنها، والصّحابة الكِرام رضوان الله عليهم؛ فهي تجربة من أصعبِ ما مرَّ في تاريخِ البشريّةِ؛ وقد بلغت من الألم والضّيق والشدّة مبلغاً؛ ذلك أنّ الرّسول صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ طُعِن في شرفهِ، وهو أشرفُ البشرِ وأطهرُهم، فوصلَ الأذى إلى داخل بيتهِ؛ إلى زوجاتهِ رضي الله عنهنّ.[٤]
تحدّثت السيّدةُ عائشة رضي الله عنها عن أبعاد حادثة الإفك، وتفاصيلِ هذه الواقعةِ المؤلمةِ، ورَوَت سرَّ الآياتِ القرآنيّةِ التي نزلت فيها. روى البخاريّ في صحيحهِ: (أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا تَأْكُلُ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ، فَأَدْلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ).[٥]
بعد فترةٍ من الزّمنِ، أظهرَ اللهُ براءةَ عائشة ممّا اتُّهِمت بهِ، وأنزلَ اللهُ آياتٍ تبيّنُ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم طيّبٌ، لا يتزوّجُ إلا من طيّبةٍ مثله، وإن دلَّ هذا على شيءٍ، إنَّما يدلُّ على شرفِ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطهارتها، فقد ظهرت مكانتُها العظيمةُ في تبرِئةِ الله سبحانهُ وتعالى لها من فوقِ سبعِ سمواتٍ، في آياتٍ من كتابِ اللهِ تُتلى إلى أن يأذنَ اللهُ عزّ وجلّ برفع كتابهِ من الأرضِ،[٤]
تفسير قول الله تعالى (الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)اتّفق العلماء على سبب نزول هذه الآية، ومتى نزلت، وبمن نزلت، وأمّا تفسيرُ قولهِ تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)،[٦] المُراد بالخبيثات: أي النّساءُ الخبيثات، والخبيثونَ: الرّجال الخبيثون، والطيِّبات: أي النّساءُ الطيّبات، والطيّبون: أي الرّجال منهم،[٧] ولبيان تفصيل مدلول الآية الكريمة، ذهب المفسّرون إلى قولين في تفسيرها:
خلاصة القولِ في تفسير هذه الآيةِ أنَّ كلّ إنسان خبيثٍ من الرّجالِ أو النّساءِ، مناسبٌ للخبيثِ وموافقٌ لهُ في سلوكه، وتصرّفاته، وطبعه، وسجيَّته، وكلامه، وكلّ إنسان طيِّبٍ من الجنسين الرّجالِ والنّساءِ، مناسب للطيّب من الطّرف الآخر، وموافق له في تصرّفاته، وأطباعه، وسجاياه، وأقواله جميعها، والطيّبون والطيّبات مُبرّؤون من كلّ ما يرميهم بهِ النّاس الخبيثون من سوءِ الصّفات، والقول، والعمل.[١٠]
المراجعالمقالات المتعلقة بتفسير قوله تعالى الطيبون للطيبات