محتويات
ليلة القدر من سُنّة الله عزّ وجلّ في الخلق أنْ فضّل المخلوقات بعضَها على بعض لِحِكَم كثيرة، عَلِمنا بعضَها منه تبارك وتعالى، وخَفِي علينا بعضها الآخر، ففضّل البشر بعضَهم على بعض؛ كالأنبياء والرُّسل عليهم السلام، وبعض البلاد على بعض؛ كمكّة والمدينة وبيت المقدس، والشهور والأيام؛ كشهر رمضان، والجمعة، ويوم عرفة، وفضّل ليلة القدر على باقي الليالي (التي تَنزّل فيها القرآن العظيم على النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم)؛ حيثُ تُفصَّل فيها المقادير، وتُقضى الأرزاق والآجال، ولهذه المكانة والفضل؛ تُرشد الشريعة الإسلامية المسلمين بإظهار آثار فضل هذه الليلة المباركة، بإحيائها بالأعمال الصالحة والعبادات الخالصة لله تعالى، لينالوا الفضل العظيم والأجر الجزيل منه جلّ وعلا، فحثّهم على قراءة القرآن الكريم، وكثرة الذكر، والصلاة، والصدقة وغيرها من العبادات المندوبة.
كيفية الصلاة فيها
الصلاة في ليلة القدر صلاة مندوبة[١]، رغّب بها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي من جُملة الأعمال الصالحة التي يقوم بها المسلم إحياءً لهذه الليلة المباركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قامَ ليلَه القَدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) [٢]، فتكونُ الصلاة فيها كصلاة قيام الليل، مثنىً مثنىً، يُسلّم العبد من كلّ ركعتين، ثم يوتر بعد ذلك إن انتهى من الصلاة، فقد جاء في الحديث الشريف: (صَلاةُ اللَيلِ مَثنىً مثنىً فإذا خَشيَ أحدَكُم الصُبحَ صَلّى رَكعةً واحِدةً تُوتِر لَه مَا قدْ صَلّى) [٣]، ولا حدود لعدد الركعات فيها، فيصلّي ما شاء بحسب طاقته وقدرته، أربعاً، أو اثنتي عشرة، أوعشرين، بحسب ما يُؤتَى من هِمة ونشاط؛ حيثُ لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، بل ورد عموم القيام دون حدّ لعدد الركعات.
على المسلم أن يراعي في الصلاة الإخلاص لله عزّ وجلّ، فتكون خالصة لله عز وجلّ، دون طلبِ ثناءٍ من أيّ مخلوق كان، وسالمة من الرّياء، فالرّياء ممقوت، وهو مُضِيعٌ للعمل ومُذهِبٌ لأجره، وبالتالي فإنّ الإخلاص هو الميزان الذي توزن به الأعمال، وهو سببٌ لرضا الله عز وجلّ والدخول في رحمته. يُستحَبّ في ليلة القدر الإكثار من الدّعاء، وأفضله ما كان في السجود، فإن العبد يكون أقرب ما يكون من الله عز وجل وهو ساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أقْربُ ما يَكونُ العَبدُ من ربِه وهوَ سَاجدٌ فأكثروا الدُعَاء) [٤]. وأفضل ما جاء من الدعاء فيها، ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : (قلت: يا رَسولَ الله، أرَأيتَ إنْ عَلمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدْر؛ ما أقولُ فيها؟ قال: قُولِي: اللّهمَ إنكَ عَفوٌ تحبُ العَفوَ فاعفُ عَنِي) [٥]، ويجوز للعبد أن يدعو بما شاء من توسيع رزق، أو طلب عفو، أو شفاء مرض، أو غيرها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في قيامه، فيقرأ قراءةً مُرتّلة (بتمهّل وتمعّن وتدبّر)، لا يمرّ بآية فيها رحمةً إلا سأل؛ أيّ سأل رحمة الله عز وجل وطلبها ودعا بها، ولا يمرّ بآية فيها عذاب إلا استعاذ منه، فبِصَلاته عليه الصلاة والسلام قد جمع بين القراءة من القرآن، والدعاء، والتفكر، وذلك أتمّ صفة لها وأعظمها أجراً.[٦]
سبب التسمية
سُمّيَت ليلة القدر بهذا الاسم لأسباب كثيرة منها ما أورده البغوي في تفسيره أنها بمعنى عِظَم الشأن والشرف، فيُقال: فلان عَظيْم القَدْر؛ أيّ الشأن، وفلان قَديْر أي؛ شريف ذو مكانة وجاه، وقيل في تسميتها بذلك؛ لأنّ الأعمال الصالحة والعبادات تكون ذات أجر عظيم ومكانة عالية عند الله تعالى، فيتعاظم الجزاء عليها ويزداد الأجر للعبد عند قيامه بالعبادة والذّكر فيها، وهناك قول آخر بأنّ الأقدار تُساق في هذه الليلة إلى مواقيتها التي ستكون بها وتحدث عندها، فهي ليلة تقدير الأمور والأحداث من رزق وأجل وموت وغير ذلك.[٧]
ميقات ليلة القدر
تكون ليلة القدر في شهر رمضان المبارك على قول جمهورالعلماء والأئمة ، لقوله عزّ وجل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [٨] ولقوله تعالى: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [٩]، فالبجمع بين الآيتين الكريمتين، يتبين أن القرآن قد نزل في هذه الليلة المباركة، والتي هي إحدى ليالي شهر رمضان الكريم.[١٠] أمّا موقها من الشهر الفضيل، فهو في العشر الأواخر منه، وهو الصحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء؛ [١٠]، فقد جاء بالحديث الذي رواه أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ذُكِرَت ليلةُ القدرِ عندَ أبي بَكْرةَ فقال: ما أنا بطالبِها إلَّا في العَشْرِ الأواخرِ بعدَ حديثٍ سمِعْتُه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سمِعْتُه يقولُ: ( التمِسوها في العَشْرِ الأواخرِ في سبعٍ بقينَ أو خمسٍ يبقَيْنَ أو ثلاثٍ يبقَيْنَ أو في آخِرِ ليلةٍ ، فكان لا يُصلِّي في العِشرينَ إلَّا كصلاتِه في سائرِ السَّنةِ فإذا دخَل العَشْرُ اجتَهد)[١١] . فيتحرّاها المسلمون في ليالي تلك الأيام؛ ليُدركوا فضلَها وبركتها، وتنالُهم رحمة الله عزّ وجل ومغفرته.
فضلها
لليلة القدر فضل عظيم يناله العبد المسلم القائم لها، فيكفي في ذلك الفضل بأن قال الله عز وجل فيها : (إنّا أنزلنَاهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَة)[١٢]، أي ليلة ذات نماء وفيها زيادة الخير والسعادة؛ فالبركة أفضل منزلة للشيء وإن قلّ أو صَغُر، وبالتالي فإنّ الأعمال فيها مباركة من الله عزّ وجلّ وذات نماء، يُعطى عليها العبد أجراً كبيراً، ويصيبُه من أدائها سعادة وانشراح في الصّدر ورضىً من الله تعالى.
أمّا الفضل الكبير الآخَر فيها، فهو تنزُّل القرآن الكريم في هذه الليلة، فالقرآن الكريم كتاب المسلم ومنهاجه، والطريق القويم لينال به الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والسبيل الصحيح لأداء الأعمال والمهام بأسلَم طريقة وأفضلها؛ فنزول هذا المنهاج العظيم في هذه الليلة دلالة واضحة على عِظَم شأنها وشرفها، وفيها يغفر الله عز وجل الذنوب جميعاً، ويُكفّر السيئات لقوله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ قامَ ليْلةَ القَدر ايْمَاناً واحتسَاباً غُفرَ لَه ما تقدَمَ مِن ذَنْبه) [٢]؛ فقيام هذه الليلة بالأعمال الصالحة من صلاة وذكر وصدقة وغيرها مع الإيمان واليقين بالله عز وجل، واحتساب الأجر منه جلّ وعلا دون رِيَاء أو تصنُّع، سببٌ لغفران الذنوب ومحو الخطايا والآثام.
المراجع
المقالات المتعلقة بكيف أصلي ليلة القدر