ترك العالم المسلم والنحوي عبد القاهر الجرجانيّ المُكنّى بأبي بكرٍ إرثاً علميّاً وثقافيّاً ضخماً للعالم العربيّ والإسلاميّ، وهو عالمٌ من أصولٍ فارسيّةٍ، عاش في العصر العباسيّ الثاني، ولد في القرن الحادي عشر في منطقة جُرجان في بلاد فارس، وعُرف بشغفه بالعلم والثقافة، وبرع في عدّة مجالات من بينها الشعر، والأدب، والنحو، وعلومِ القرآن، وكان من أبرز من تتلمذ على يدهم: سيبويه، والجاحظ.
على الرغم ممّا قدّمه العالم الجرجانيّ من آثار علميّة وثقافيّة كالرسالة الشافية في إعجاز القرآن الكريم، وما حظيت به من اهتمام، إلّا أنّ نظرية النظم التي طرحها للعالم قد اجتاحت مساحاتٍ أكبر من الاهتمام.
نظرية النظمقدّم العالم والنحوي المسلم الجرجانيّ واحدةً من أهمّ النظريات المتعلّقة بالبلاغة في اللغة العربيّة وهي نظريّة النظم، ويشير مصطلح النظم في هذه النظرية إلى الحفاظ على تنسيق دلالة اللفظ وإيجاد ما يتناسب من معانيها مع معاني النحو والتي تكون قائمةً على ما يقتضيه العقل البشريّ.
جاء الشرح الموسّع لنظرية النظم في كتاب دلائل الإعجاز للجرجانيّ؛ حيث أوجز في مقدمة كتابه تعريفاً للنظم على أنه" تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسمٌ، وفعلٌ، وحرفٌ، وللتعليق فيما بينها طرقٌ معلومةٌ، لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلّق اسمٍ باسمٍ، تعلّق اسمٍ بفعلٍ، تعلّق حرفٍ بهما"، وبهذا الكلام الموجز كان الجرجانيّ قد جاء بأوّل ربط بين علم النحو والنظم في البلاغة العربيّة، ويُشار إلى أنّه قد حرص على ضرورة مراعاة المعاني في النحو والصرف.
لا بدّ لنا من التنويه إلى أنّ نصوصَ العالِم الجرجانيّ لم تكن نحوية إنما مجرد طريقٌ يمهد لفروعٍ جديدةٍ لعلمِ النحو، ولذلك فإنّ الفرق واضح المعالم بين ما جاء به الجرجانيّ من النظم والنحو، ويكمن الفرق بأنّ معاني النحو ليست بحاجةٍ لأيّ جهدٍ أو معاناةٍ في تفسيرها واستيعابها، بينما تحتاج معاني النظمِ إلى التخيّر والتعمّق في جميع أبواب النظرية، لذا لا بدّ للمتعمِّق بنظرية النظم أن يمتلك تذوقاً أدبياً سليماً بشكلٍ تامّ ليتمكن من تحرّي الصواب من الخطأ.
أدخل الجرجانيّ نظرية النظم حيّز التطبيق على النصوص المتنداولةِ في خدمة النظرية، وجاء ذلك في كلٍّ من باب التقديم والتأخير، وباب الحذف، أما من ناحية جمال الاستعارة فكان الجرجانيّ -رحمه الله- قد أقدم على خطوةٍ ربطها بعلم المعاني بأسلوبٍ بديعٍ، حيث قدّم عدداً من أنواع الاستعارة التي لا يمكن للقارئ أن يطلع عليها إلّا بعد علمه بنظرية النظم وذلك لما تتمتع به من غرابةٍ ولطف.
المقالات المتعلقة ببحث حول نظرية النظم